لـمـاذا تـأخـرت الـحــرب الـمـغـربـيـة الإسـبــانـيـة؟

29 يناير 2020
لـمـاذا تـأخـرت الـحــرب الـمـغـربـيـة الإسـبــانـيـة؟

بقلم: نزار بولحية*

قبل ما يقرب من عامين ذكر تقرير لصحيفة « المندو» الإسبانية، أن مخابرات الدولة الإيبيرية تتابع عن كثب تسليح القوات المغربية، واضعة نصب أعينها احتمال قيام مواجهة مسلحة بين البلدين في المستقبل. وفي وقت ما تحدثت مصادر إسبانية عن قلق مدريد من حصول الجيش المغربي على دبابات إمبرامز، ثم على طائرات مقاتلة أمريكية، فيما ذكرت أخرى أن هناك انزعاجا إسبانيا من حيازة الرباط راجمات صواريخ صينية.

غير أن مظاهر الود والحرارة التي ظل يُقابل بها كبار المسؤولين في البلدين، خلال زياراتهم للعاصمتين، وما كان يعرف عن توثق روابط الأسرتين الحاكمتين، جعل كثيرين يقللون من أهمية تلك الأقوال، رغم علمهم أن هناك معطى تاريخيا يدل على أنه سبق للمغرب وإسبانيا أن تواجها عسكريا، وفي القرنين الأخيرين فقط، خمس مرات على الاقل. ومع أن قسما واسعا من المهمشين والمفقرين الساعين وراء لقمة عيش، قد لا يستحضر وهو يقف في طوابير على بوابات، ما كان جزءا من تراب بلاده، كل تلك الحروب والمواجهات، وقد يظن أن نشوب حرب مغربية إسبانية جديدة هو نوع من الطوباوية، فإنه ليس باستطاعته أن ينكر أن حالة التوتر والغليان الشعبي الموجودة على أطراف المعابر، قد تقوده في حال ما إذا سدت أبواب الرزق بوجهه، وفقد كل آماله للمطالبة قبل غيره بحرب تحريرية، ربما لا يتخيل الآن حدوثها.

ومن الواضح أن خطوط التماس بين الجانبين، ظلت لسنوات طويلة مستقرة، باستثناء ما كان يحصل بين الحين والآخر من أحداث اقتحام أو تسلل. فلم يسبق لأجيال عديدة أن سمعت ولو صوت طلقة رصاصة واحدة تخرج من هذا الجانب، أو من ذاك، باستثناء ما حصل لأعداد ممن كانت تصفهم مدريد بالمتسللين أو المهاجرين غير الشرعيين. وهذا الأمر قد يكون في نظر السلطات مطمئنا، لكنه يبقى بالنسبة للشعبين مضللا. فالمؤكد أن كلا الجانبين يدركان جيدا، رغم كل ما يرددانه دائما عن قوة ورسوخ واستراتيجية علاقاتهما، أن اندلاع حرب جديدة بينهما ليس سوى مسألة وقت، وأنه لابد لهما على المدى البعيد، أو حتى المتوسط، أن يخوضا مواجهة مصيرية أخرى قد لا تحدد مستقبلهما فحسب، بل مصير الشمال الافريقي كله. ومن المؤكد أن مثل تلك القناعة لا تغيب عن أذهان الكثيرين في مدريد والرباط، مع انه لاشيء يعطي الآن انطباعا فعليا بذلك. فحتى إن تغيرت حكومة هنا أو صعد يمينيون متطرفون إلى السلطة هناك، أو احتدمت أزمة أو خلاف على صخرة أو جزيرة، أو على اتفاقيات صيد بحري، أو حتى على طريقة التعامل على معابر البلدتين المحتلتين، وبلغت التعديات والإهانات حدودا غير مسبوقة، من قبيل ما أقدمت عليه السلطات الإسبانية، قبل نحو ست سنوات، عندما أوقفت يخت الملك محمد السادس غير بعيد لتطالبه بأوراق هويته، فقد كانت هناك دائما قوة خفية تجعل الجانبين يتداركان الأمر بسرعة، ويتراجعان ليعدلا مواقفهما، مطوقين كل تلك الأزمات، وواضعين حدا لرقعة انتشارها وتوسعها، حتى لا تتحول إلى حرب حقيقية ومفتوحة بينهما.

لكن ما الذي جعلهما قادرين على ذلك؟ وهل سيكون بإمكانهما أن يستمرا طويلا في لعبة ضبط النفس، التي يمارسانها بمهارة تجعلهما يؤجلان الحسم في كثير من الملفات والمواضيع الحساسة بينهما، على اختلاف الدوافع والأسباب التي تقودهما نحو خيار مثل ذلك؟ رغبتهما المشتركة في إبقاء الأوضاع على حالها، قد تكون في سياق قراءتيهما لموازين القوى وللمحيط الاقليمي مفهومة. ويبدو أن هناك اتفاقا ضمنيا غير مكتوب، أو لنقل غير معلن، يجعلهما يقبلان بصيغة تضمن أن لا تجوع إسبانيا، ولا يشتكي المغرب، أي بمعنى أن لا تقطع في كل الاحوال شعرة معاوية، التي تجعل من توقع فض أي نزاع أو خلاف بينهما، مهما بلغ مداه بالحرب غير وارد بالمرة. ولعل البعض يذكر النزاع على جزيرة ليلى، ويذكر أيضا كيف أن العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني، كان يشدد وبالخصوص في الخطاب الذي أعلن فيه منتصف السبعينيات، عن انطلاق مسيرة كبرى نحو الأراضي الصحراوية، التي قرر الإسبان الجلاء عنها، أنه ينبغي على المغاربة المشاركين في المسيرة، أن لا يواجهوا أبدا أي جندي إسباني يعترض طريقهم.

وربما أدرك المغاربة، ومنذ وقت باكر أنه سيكون عليهم أن يقبلوا بنوع من الموازنة الصعبة، بين أن يسعوا وراء استعادة ما يرونه جزءا من أراضيهم في الجنوب، وأن يحرصوا على الضغط على الإسبان لمطالبتهم بالجلاء عن مدن وثغور وجزر في أنحاء أخرى من بلادهم. فكما أنه لم يكن بإمكانهم أن يخوضوا أكثر من حرب واحدة، على أكثر من جبهة، فإنه لم يكن باستطاعتهم ايضا أن يواجهوا إسبانيا، أو يعلنوا العداء الصريح لها، في الوقت الذي كان فيه جل تركيزهم واهتمامهم منصبا على حسم المعضلة الصحراوية، وكانت أنظارهم مصوبة بقوة نحو جارتهم الجزائر، على اعتبار انها كانت هي من يحرك من وراء الستار، وأحيانا بشكل مكشوف غريمتهم جبهة البوليزاريو. غير أنه سيكون من الإجحاف أن يلقي المغاربة باللائمة فقط على الجزائر. فقد استطاعت مدريد أن تمسك، ومنذ البداية، بخيط مهم من خيوط اللعبة الإقليمية من خلال نفخها في خلافات البلدين، واستغلالها جيدا لجعل قضية الصحراء ورقة مساومة وضغط، ترفعها أمامهما باستمرار.

ولعلها كانت تدرك أن من مصلحتها دفع المغرب للانخراط بقوة، في ما يعتبره أقاليمه الجنوبية، حتى يغلق نهائيا ملف الجزر والبلدات الشمالية، التي تحتلها وتصبح المطالبة بها غير ممكنة وشبه مستحيلة. وربما كانت تلك هي نقطة التقاء البلدين على ما قد يكون اتفاقا ضمنيا، على صيغة تضمن تعايشهما مع الأمر الواقع .

غير أن المعطى الذي دخل الآن على الخط، هو قرار المغرب ترسيم حدوده البحرية من جانب واحد، وهو أمر تم التلويح به منذ مدة، لكن لم يصادق عليه البرلمان المغربي إلا الأربعاء الماضي فقط. ومع أن وزير الخارجية المغربي حاول التقليل من تعبات تلك الخطوة على مستقبل العلاقة المغربية الإسبانية، واعتبارها «مسألة داخلية سيادية»، لا تمنع «انفتاح المغرب واستعداده للحوار والتفاوض مع جيرانه خاصة إسبانيا، لمعالجة أي تداخل في المجالات البحرية للبلدين»، مثلما قال في جلسة برلمانية الا أن هناك نوعا من الانقسام الداخلي في إسبانيا، في تقدير تداعيات تلك الخطوة، وتأثيرها على مياه جزر الكناري، التي ضمت إلى الممتلكات الاسبانية، لكن السؤال المطروح هو ما الذي سيحصل في حال ما إذا تمكن المغرب بالاخير من كسب الملف الصحراوي؟ فهل إنه سيبادر لنقض اتفاقه الضمني مع إسبانيا، وسيطالبها في ذلك الوقت باستعادة الأراضي التي احتلها؟ لعل ذلك سيكون مستبعدا جدا ما لم تبادر الرباط إلى القيام بالخطوة التمهيدية والضرورية الأولى للحرب، وهي تطبيع علاقتها بالريف المغربي، على اعتباره من سيكون ساحة المعركة المقبلة، التي يستعد لها الإسبان والمغاربة بعيدا عن العلاقات الودية بين قادتهم ومسؤوليهم.

*كاتب وصحافي من تونس

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص المحتوى والإعلانات، وذلك لتوفير ميزات الشبكات الاجتماعية وتحليل الزيارات الواردة إلينا. إضافةً إلى ذلك، فنحن نشارك المعلومات حول استخدامك لموقعنا مع شركائنا من الشبكات الاجتماعية وشركاء الإعلانات وتحليل البيانات الذين يمكنهم إضافة هذه المعلومات إلى معلومات أخرى تقدمها لهم أو معلومات أخرى يحصلون عليها من استخدامك لخدماتهم.

اطّلع على التفاصيل اقرأ أكثر

موافق