سليمان الريسوني يكتب.. الملك والسانديك

4 سبتمبر 2019
سليمان الريسوني يكتب.. الملك والسانديك

بقلم سليمان الريسوني

لعبدالإله بنكيران تشبيه لا يخلو من طرافة وصوابية وتسطيح عن أن الملكية البرلمانية لا تصلح، الآن، للمغاربة.

يسألك، وأنت تناقشه في الموضوع: “هل تسكن عمارة؟”، وعندما تجيب بالإيجاب، يستطرد: “وهل كل السكان يؤدون واجب السانديك؟”، تقول: “ليسوا جميعا”، فيضيف: “انتهى الكلام، من لا ينضبط لوكيل اتحاد العمارة، المنتخب، لن ينضبط لرئيس حكومة منتخب بصلاحيات جد واسعة في إطار ملكية لا يحكم فيها الملك”.

هكذا، يضعك رئيس الحكومة السابق أمام قدرين لا ثالث لهما: الملكية التنفيذية أو الفوضى، وأمام خيارين لا محيد عنهما: الملك أو السانديك.

والحقيقة أن استدلال بنكيران كان سيكون أكثر صوابية لو أننا كنا سننتقل إلى ملكية برلمانية فتية من ملكية تنفيذية ضعيفة، والحال أن هذا غير صحيح، فالمطالِبون بملكية تسود ولا تحكم ينشدون ذلك في عز قوة المؤسسة الملكية، وفي أوج عنفوان الجيش والأمن والقضاء، ولا يرون أي تطوير لشكل الحكم إلا بتوافق مع الملكية وضمانات منها برعاية النموذج الجديد، في المرحلة الانتقالية، إلى أن ينضج ويصل إلى بر الأمان.

لقد أصبح كثيرون، الآن، داخل المحيط الملكي، ومن الأصدقاء التقليديين للملكية في الخارج، واعين بأن نموذج الملكية البرلمانية هو الأفق الوحيد لتطور نظام الحكم في المغرب، وأن النموذج الحالي وصل إلى عنق الزجاجة، لكنهم متخوفون من المجازفة به في هذه المرحلة، لأن الشعب غارق في المحافظة الاجتماعية والسياسية، والأحزاب غير جاهزة لحكم كامل.

وهذا، على صحته، يمدد مدة الانتقال إلى ديمقراطية كاملة إلى أجل غير مسمى، لأن المحافظة أصبحت تزحف من هوامش الفقر إلى الطبقة المتوسطة التي تحولت من نموذج حياة وتفكير ليبرالي إلى آخر محافظ، والآن، تتحول إلى طبقة وسطى متأسلمة، دون حاجتها إلى أحزاب إسلامية، لأنها لا ترى جدوى من العملية السياسية الديمقراطية.

وإذا كانت المشاريع السياسية والاجتماعية والثقافية الضخمة التي تم إطلاقها في السنوات الأخيرة، لمواجهة المد الإسلامي، من تأسيس “البام”، إلى تفريخ المهرجانات الموسيقية، مرورا بمسيرة ولد زروال التي رفعت شعارات ضد أخونة وأسلمة الدولة، وانتهاءً بإضعاف حكومة العثماني.. قد نجحت في التشويش على الأحزاب الإسلامية، فإنها نجحت أكثر في التشويش على الدولة ومصداقيتها، دون أن تقنع المغاربة بمشروع حداثي بديل،

وها نحن نرى كيف أن من يعتبرون أنفسهم حركة تصحيحية داخل الأصالة والمعاصرة، لا يتوقفون، هذه الأيام، عن ترديد عبارة: “نحن لا نريد أن نكون حزب الدولة”، وهم بذلك لا يفعلون سوى القول: “لقد كنا حزب الدولة”. يكاد المريب يقول خذوني.

وفي غياب معطيات إحصائية دقيقة، فإنني أكاد أجزم بأن المناطق التي هيمنت عليها أحزاب الإدارة لوقت طويل، هي المناطق الأكثر تعرضا لزحف التصحر الديني والاجتماعي، لأن هذه الأحزاب وكثير من أعضائها في الجماعات الترابية يشتغلون داخل مربع: الفساد، وسوء الحكامة، وعدم القدرة على تأطير المواطنين، والاحتراف الانتخابي القائم على شراء ذمم كتلة ناخبة مضبوطة عدديا وكافية لضمان مرور العضو أو اللائحة إلى البرلمان أو مجلس الجماعة.

إن تاريخا من تفريخ أحزاب الإدارة، واختراق الأحزاب الديمقراطية عن طريق قياديين مائعين (fluides) فيها، وتكريس تقليد اللجوء إلى القصر لاختيار أمين عام أحزاب أخرى، واعتقال النخب وتخويفها وتغريبها (أهم أطر المدرسة المحمدية للمهندسين اعتقلت أو نفيت أواسط السبعينيات)،

وعدم إعطاء الفرصة لجيل ولي العهد، وفي طليعتهم أصدقاء دراسته، لتحمل المسؤولية (يروى عن إدريس البصري أنه كان يقول: الأصدقاء لا يحكمون دولة، بل ينظمونsurprise partie)، وإدخال الحركة الطلابية في دوامة العنف الفكري والدموي… هذه العوامل وغيرها أدت إلى إضعاف النخب.

لقد اضطر الملك محمد السادس، لصياغة أول خطاب له بعد توليه العرش، إلى الاستعانة بأستاذ والده، عبدالهادي بوطالب، كما أن الوزراء الأولين الثلاثة (اليوسفي وجطو والفاسي) ورئيسا الحكومة (بنكيران والعثماني)، الذين حكم إلى جانبهم، ليسوا من جيله…

لقد انتبه، مؤخرا، المحلل السياسي مصطفى السحيمي، إلى هذا الموضوع، وهو يرسم بروفايلات للشخصيات المؤهلة، في تقديره، لتولي رئاسة اللجنة الاستشارية المكلفة بإعداد النموذج التنموي الجديد،

حيث انتهى في خاتمة مقاله إلى القول: ” في الختام، لا بد من الوقوف عند هذا الاستفهام الذي فرض نفسه: هل خلق العهد الجديد نخبته الجديدة؟ إن الندرة المتزايدة في الكفاءات، والتي أتى الملك شخصيا على تسجيلها من جديد عندما قال إنه يريد دماء جديدة في خطاب ذكرى ثورة الملك والشعب، هي أيضا من التحديات المطروحة على النموذج التنموي الجديد. هناك تحدٍ كبير يتمثل في كيفية تثمين الموارد البشرية المتوفرة، أليس هذا سؤال ملحق ينبغي طرحه من خلال معرفة ما إن كان من اللازم مراجعة الشُعب والمساطر التي يتم بها انتقاء النخب، والتي أدت إلى الوضع الحالي؟”.

عندما قرأت ما كتبه السحيمي، قفز إلى ذهني اسم حسن أوريد، صديق دراسة الملك، المثقف، وكيف تم تدريجه في مناصب رسمية شبه ميتة قبل تحويله إلى رجل سلطة وإرساله إلى مكناس التي لم يعد منها سوى باتهامات غير مسنودة ولا مفندة حول ذمته المالية، وكأن من يحركون الحملات المشهرة به، يقولون: هذا ما لدينا من نخب، فلا تستغيثوا من النار بالرمضاء.

ختاما، لقد كان الحسن الثاني وهو يحمي ملكيته التنفيذية من منافسيه، يقول: “كل الذين علمناهم تحولوا إلى يساريين”، لأنه كان يستشعر خطر النخبة الديمقراطية المستقلة على نظامه، وكان محيطه يخوفه منها، لذلك كان يفضل أن يكون مسؤولوه مثل السانديك الذي لا يملك أية سلطة.

يحكي الأمير مولاي هشام في مذكراته: “كان أوفقير يتحدث كثيرا عن عبدالرحيم بوعبيد.. كان خطاب أوفقير يغلب عليه المبالغة والتهويل وكأننا في حالة حصار، ويردد دوما أن اليساريين موجودون في كل مكان وأنهم سوف يقتلوننا جميعا”.

لكن، ملكية محمد السادس لا خوف عليها من النخب، يسارية أو إسلامية، بل الخوف عليها من جماهير غاضبة ولا مؤطر لها. فلماذا نستمر في تفريخ السانديكات ومحاربة النخب داخل الأحزاب؟

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص المحتوى والإعلانات، وذلك لتوفير ميزات الشبكات الاجتماعية وتحليل الزيارات الواردة إلينا. إضافةً إلى ذلك، فنحن نشارك المعلومات حول استخدامك لموقعنا مع شركائنا من الشبكات الاجتماعية وشركاء الإعلانات وتحليل البيانات الذين يمكنهم إضافة هذه المعلومات إلى معلومات أخرى تقدمها لهم أو معلومات أخرى يحصلون عليها من استخدامك لخدماتهم.

اطّلع على التفاصيل اقرأ أكثر

موافق